الجامع الكبير ببنزرت

  • بنزرت

الجامع الكبير ببنزرت

التأسيس والنشأة

شُيّد الجامع الكبير ببنزرت سنة 1652م الموافق لـ 1063هـ، وفق ما ورد في النقيشة التذكارية المثبتة فوق محرابه. وقد تمّ بناؤه بأمر من الأمير المرادي محمد داي الملقب بحمودة باشا (1631–1666م)، وتولّى الإشراف على تشييده الحاج محمد لز. منذ ذلك التاريخ، ظل الجامع أحد أبرز مراكز العبادة والعلم بالمدينة، وحافظ على مكانته الدينية والاجتماعية عبر العصور.

الموقع والبيئة العمرانية

يقع الجامع في قلب المدينة العتيقة ببنزرت، بمحاذاة سوق الزنايدية، وهو شريان رئيسي عرف تاريخياً بصناعة الأسلحة النارية التقليدية. من جهة القبلة، يجاور الجامع الرصيف القديم للمرسى، ما يعكس ارتباطه الوثيق بالحياة البحرية والتجارية للمدينة. ويقابله من جهة الباب الرئيسي الحمام الكبير، في خصوصية عمرانية تتكرر في مساجد تونسية عديدة مثل جامع القصبة بتونس العاصمة. كما يجاوره زاوية سيدي المختار داي، أحد رموز الطريقة القادرية.

القيمة المعمارية والفنية

يُعتبر الجامع الكبير ببنزرت تحفة معمارية تمزج بين أنماط مختلفة؛ فقد استلهمت هندسته وزخرفته من العمارة التركية والأندلسية والمغربية، ليصبح شاهداً على تفاعل الحضارات الإسلامية .

الأبواب: خمسة أبواب تؤدي إلى الجامع، أهمها الباب الرئيسي المطل على الزنايدية- .

المئذنة: ذات طابع مثمن الأضلاع، وهو أسلوب نادر في مآذن بنزرت، يعكس التأثير العثماني ويضفي انسجاماً جمالياً ورمزياً على المشهد العمراني- .

الصحن: فناء واسع تبلغ مساحته نحو 76 م²، يتصل بالميضأة والبئر، ويُستعمل كمصلّى إضافي صيفاً أو عند ازدحام قاعة الصلاة- .

المزولتان: يحتوي الجامع على ساعتين شمسيّتين؛ الأولى تعود إلى سنة 1721م والثانية إلى 1783م، استُعملتا لضبط أوقات الصلاة بدقة-.

قاعة الصلاة ومكوّناتها

تمتد قاعة الصلاة على مساحة تقارب 396 م²، وتقوم على ستة وثلاثين عموداً متناسقاً وفق الطراز التركي. زخارفها هندسية متأثرة بالفن المغربي والمحلي، بينما تزين سقفها قباب وأنصاف قباب مقوّسة.

المحراب: تركي الطابع، مغلف برخام المرمر، ويذكّر بمحراب جامع يوسف باي بالعاصمة. نُقشت فوقه آية: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ- ﴾.

المنبر: عرف عدة تغييرات عبر الزمن؛ من منبر خشبي ضخم تقليدي إلى منبر حديث أصغر حجماً- .

الختمة: كرسي خشبي كان مخصّصاً لتلاوة القرآن وتجويده قبل خطبة الجمعة- .

الشبابيك: أربعة نوافذ كبيرة وفتحات صغيرة أعلى الجدران لتوفير الضوء والتهوية- .

القناديل: كانت تضيء القاعة بقناديل مزخرفة تضفي جواً من السكينة والخشوع- .

الوظيفة الدينية والعلمية

نال الجامع الكبير مكانة متميزة داخل المجتمع البنزرتي، حيث كان مركزاً للمذهب المالكي، في مقابل جامع القصبة الذي ارتبط بالمذهب الحنفي. وقد حظي بعناية خاصة من الأهالي عبر الأوقاف التي مولت صيانته وأنشطته.

في المجال التعليمي، كان الجامع أول فضاء تأسس فيه فرع للتعليم الزيتوني ببنزرت منذ بدايات القرن العشرين إلى حدود 1951م، قبل أن يُنقل هذا الفرع إلى جامع الربع بأمر من الشيخ محمد الطاهر بن عاشور. ومن هناك تخرّج العديد من العلماء والفقهاء الذين أسهموا في نشر العلم الديني والوطني.

الأئمة والعلماء

ارتبط بالجامع عدد من الأسماء البارزة في الخطابة والتدريس، من بينهم:

الشيخ إدريس الشريف (1866–1936م).

الشيخ مختار الدلالي (1876–1974م)، مدير الفرع الزيتوني ببنزرت.

الشيخ محمد الخضر حسين (من كبار علماء تونس والأزهر لاحقاً).

الشيخ محمد صالح الخازن، الشيخ حمودة بوقطفة، والشيخ محفوظ الشريف، وغيرهم.

الترميم والصيانة

تواصلت عناية المجتمع والدولة بالجامع، خاصة بعد الاستقلال، باعتباره معلماً أثرياً وتاريخياً. بين سنتي 2008 و2011، أُنجزت أشغال ترميم شاملة بإشراف المعهد الوطني للتراث وبمشاركة جمعية صيانة مدينة بنزرت، ما أعاد للجامع رونقه وأصالته.

القيمة الحضارية

يُجسد الجامع الكبير ببنزرت تمازج التأثيرات المعمارية الإسلامية المختلفة، ويختزن ذاكرة المدينة العتيقة بحيويتها التجارية والدينية. كما يعكس دوره العلمي والوطني مكانته كمنارة للعلم والدين، وفضاءً حضارياً ترك بصمته على مسيرة الأجيال.